كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وههنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان {نعم العبد} تارة وفي حق أيوب أخرى، اغتم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه، فكيف السبيل إلى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله: {فنعم المولى ونعم النصير} [الحج: 78] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى، فإن كان منك الفضول فمني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق.
قلت: وصف أنبياء سائر الأمم بقوله: {نعم العبد} ووصف هذه الأمة بقوله: {كنتم خير أمة} [آل عمران: 110] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء. ومعنى {أولي الأيدي والأبصار} أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال، والبصر آلة لأقوى الإِدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد، وعن الإدراك بالبصر، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والرعفان فهم في حكم الزمنى والعميان، ولولا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة. قوله: {أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة، والدار ظرف فهي الدنيا، أو مفعول به فهي الآخرة. والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة، أو بما خلص من ذكراها، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. و{المصطفين} جمع مصطفى وأصله مصطفين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء المتحركة ألفًا ثم حذفت، أراد اخترناهم من بين أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في ميت أو موت {إسماعيل واليسع وذا الكفل} وقد مر ذكرهم في سورة الأنبياء. وحين تمم ذكر الصالحين وما لقي كل منهم من أنواع الابتلاء تثبيتًا لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو باب من أبواب التنزيل ونوع من أنواع القرآن، أراد أن يذكر على عقيبه بابًا آخر وهو ذكر جزاء المتقين والطاغين قال: {هذا ذكر} ثم قال: {وإن للمتقين} كما يقول المصنف: إذا فرغ من فصل من كتابه هذا باب ثم يشرع في باب آخر. ويحتمل أن يكون من تتمة صفات الأنبياء أي هذا الذي قصصنا عليك من أحوال هؤلاء الأنبياء شرف وذكر جميل يذكرون به أبدًا.
قوله: {مفتحة} حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. قال الزجاج {الأبواب} فاعل {مفتحة} والعائد محذوف أي الأبواب منها. وقال غيره. في {مفتحة} ضمير الجنات {والأبواب} بدل الاشتمال من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب نظيره في بدل البعض ضرب زيد اليد والرجل فكان اللام عوضًا من الضمير الراجع. والمعنى أن الملائكة الموكلين بالجنات إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له ابوابها وحيوه بالسلام فلا يحتاجون إلى تحصيل مفاتيح ومعاناة الفتح. وقيل: أراد به وصف تلك المساكين بالسعة وجولان الطرف فيها من غير حائل. وقوله: {متكئين} حال مقدرة متداخلة كما مر أو حال بعد حال أو عامله مؤخر وهو {يدعون} أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم.
وقيل: يتمنون وقيل: يسألون. قال المفسرون: أراد وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول. وحين بين أمر المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح. وقاصرات الطرف قد مر في الصافات أنهن اللواتي قصرن الطرف عن الالتفات إلى غير أزواجهن. والأتراب جمع ترب وهي اللدة. واشتقاقها قيل من اللعب بالتراب، وقيل لأن التراب مسهن في وقت واحد. والسبب في اعتبار هذا الوصف أن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هن وأزواجهن واحدة في الأسنان. وقيل: اراد أنهن شواب لا عجوز ولا صبية. ويروى أنهن بنات ثلاث وثلاثين. ومعنى {ليوم الحساب} قيل: لأجل الحساب لأن الحساب على الوصول إلى جزاء العمل. والظاهر أن اللام للوقت أي ما وعدتم تعطونه في يوم الحساب.
{إن هذا لرزقنا ماله من نفاد} انقطاع ونهاية ولا مزيد فوق ذلك فتمام النعم بدوامها. ثم بين أن حال الطاغين مضادّة لحال المتقين وأكثر المفسرين حملوا الطغيان هاهنا على الكفر لأنه تعالى يحكي عنهم أنهم قالوا اتخذناهم سخريًا، والفاسق لا يتخذ المؤمن هزوًا لأن الطاغي اسم ذم، والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر، ويؤيده قول ابن عباس: المعنى إن الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مصير. وحمله الجبائي على أصحاب الكبائر من أهل الإيمان وغيرهم لأن كل من تجاوز عن تكاليف الله فقد طغا، ومنه قوله تعالى: {إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى} [العلق: 67] والمهاد الفراش وقد مر مرارًا. وقوله: {هذا} قد مر بعض إعرابه في الوقوف، ويحتمل أن يراد العذاب هذا ثم ابتدأ فقال هو حميم أو منه {حميم} ومنه {غساق} أو {هذا فليذوقوه} معناه ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله: {فإِياي فارهبون} [النحل: 51] وقيل: {حميم} مبتدأ و{هذا} خبره. والغساق بالتخفيف والتشديد ما يغسق من صديد أهل النار. يقال: غسقت العين إذا سال دمعها. وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل الليل الغاسق لأنه أبرد من النهار. فالحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده. وقال الزجاج: إنه المنتن لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق يؤيده قول ابن عمر: هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه. وقال كعب: هو عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي سم من عقرب وحية. وعن الحسن: هو عذاب لا يعلمه إلا الله. إن الناس أخفوا الله طاعة فأخفى لهم ثوابًا في قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة: {وآخر من شكله} أي ومذوقات أخر أو عذاب أو مذوق آخر من جنس هذا المذوق. و{أزواج} أي أجناس أو مقترنات صفة الآخر لأنه جاز أن يكن مختلفات أو صفة للثلاثة المذكورة وهي حميم وغساق وشيء آخر من شكله، والمجموع خبر هذا أو خبر هو.
وحين وصف مسكن الطاغين ومأكولهم ومشروبهم حكى أحوالهم مع الذين كانوا يعدونهم أحباءهم في الدنيا ثم مع الذين كانوا يعدونهم أعداءهم. أما الأوّل فقوله: {هذا} اي يقول الطاغون بعضهم مع بعض وذلك إذا دخلت أمة ثم دخل آخرون. والفوج الأوّل الرؤساء والثاني الأتباع. وقيل: الأول إبليس وبنوه والثاني أبناء آدم هذا {فوج} اي جمع كثيف دخل النار في صحبتكم. والاقتحام الدخول في الشدة أرادوا أن أتباعهم اقتحموا معهم العذاب كما اقتحموا معهم الضلال. وقوله: {لا مرحبًا بهم} دعاء منهم على أتباعهم و{مرحبًا} نصب على أنه مفعول به أو مصدر أي أتيت رحبًا لا ضيقًا، أو رحبت بلادك رحبًا فإذا دخل عليه لا صار دعاء السوء وبهم بيان للمدعو عيلهم. وقوله: {إنهم صالوا النار} تعليل لاستيجابهم اللعن. قيل: إنما قالوا ذلك ولم يصدر من الأتباع ذنب في حق من قبلهم لأن النار تكون مملوءة منهم، أو لأن عذابهم يضاعف بسببهم. وقيل: هو إخبار لا دعاء أي وقد وردوا موردًا لا رحب فيه ولا سعة. وقيل {هذا فوج مقتحم معكم} كلام الخزنة لرؤساء الكفرة فما بين أتباعهم. وقيل: هذا كله كلام الخزنة {قالوا} أي الأتباع.
{بل أنتم لا مرحبًا بكم} أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم {أنتم قدمتموه لنا} والضمير لما هم فيه من العذاب أو الصلي أي كنتم السبب في العمل الذي هو جزاؤه فجمعوا بين مجازين، لأن الأتباع هم الذين عملوا عمل السوء لا رَؤساؤهم والعمل هو المقدّم لا جزاؤه. ومن جعل قوله: {لا مرحبًا} بهم من كلام الخزنة، زعم أن تقدير الكلام هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا وتسببكم لما نحن فيه.
{فبئس القرار} أي المستقر النار {قالوا} أي الفوج وهو كالبدل من {قالوا} الأوّل والضعف المضاعف كما مر في الأعراف وأما الثاني فقوله: {ما لنا لا نرى رجالًا كنا نعدّهم من الأشرار} أي في اعتقادنا لأن دينهم على خلاف ديننا، أو أرادوا أنهم أراذل لا خير فيهم يعنون فقراء المسلمين. وعن بعضهم أن القائلين صناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما والرجال عمار وبلال وصهيب وأمثالهم. من قرأ {أتخذناهم} بفتح الهمزة فعلى أنه إنكار منهم على أنفسهم وتأنيب لها بالاستسخار منهم، وكذا فيمن قرأ {اتخذناهم} بكسر الهمزة ويقدر همزة الاستفهام محذوفة، ومن جعلها صفة أو حالًا فلا إشكال وحينئذ يتصل {أم زاغت} بقوله: {ما لنا لا نرى} أي الرجال الموصوفين في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا وخفي علينا مكانهم فلا نراهم وهم فيها. فأم منقطعة وكذا إن اتصل بقوله: {اتخذناهم} على الاستفهام لأن الأول للإِنكار، والثاني للاستخبار.
ويجوز أن يكون أم متصلة وكلاهما للإِنكار. ومعنى زيغ الأبصار ازدراؤهم وتحقيرهم يؤيده قول الحسن، كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريًا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم واللام في الأبصار عوض من الضمير أي أبصارنا {إن ذلك} الذي حكينا عنهم {لحق} لابد لهم من وقوعه لأنهم مالوا إلى عالم التضاد فيحشرون كذلك. ثم بين ما هو فقال هو {تخاصم أهل النار} لأن التلاعن والتشاتم نوع من أنواع الخصومة.
واعلم أنه سبحانه لما بدأ في أول السورة بأن محمدًا يدعو إلى التوحيد وأن الكفار يستهزؤن منه وينسبونه إلى السخرية تارة وإلى الكذب أخرى. ثم ذكر طرفًا من قصص الأنبياء عليهم السلام ليعلم أن الدنيا دار تكليف وبلاء لا دار إقامة وبقاء. ثم عقبه بشرح نعيم الأبرار وعقاب الأشرار، عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أوّل السورة وهي صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما يدعو إليه من التوحيد والإخلاص فقال: {قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد} من جميع الوجوه {القهار} لما دونه ثم أردف القهر باللطف والتربية قائلًا {رب السموات والأرض وما بينهما} ثم أكد صفتي القهر واللطف بقوله: {العزيز الغفار} فمن عزته أدخل أهل الاستكبار النار ولمغفرته أعدّ الجنة لأهل الاستغفار. قوله: {قل هو نبأ عظيم} أي القول بأن الله واحد نبأ عظيم أو القول بالنبوّة أو بإثبات الحشر والقيامة، وذلك لأن هذه المطالب كانت مذكورة في أوّل السورة ولأجلها سيق الكلام منجرًا إلى ههنا. ويحتمل أن يراد {كتاب أنزلناه} فيه نبأ عظيم وهؤلاء الأقوام أعرضوا عن كل من هذه الأمور. ثم بين أنه حاصل من قبل الوحي بقوله: {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى} وهم الملائكة {إذ يختصمون} أي يتقاولون فيما بينهم بالوحي. والظرف متعلق بمحذوف أي بكلامهم وقت اختصامهم، شبه التقاول بالتخاصم من حيث إن في كل منهما سؤالًا وجوابًا والمشابهة علة لجواز المجاز. ثم صرح بما عليه مدار الوحي قائلًا {إن يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين} أي ما يوحى إليّ إلا هذا وهو إني نذير كامل في باب التبليغ، ويؤيده قراءة كسر {إنما}. وقيل: إن الجار محذوف أي لم يوح إليّ إلا لأن أنذر ولا أقصر. روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «أتاني الليل آت من ربي وفي رواية ربي في أحسن صورة فقال لي: يا محمد. قلت: لبيك ربي وسعديك. قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أعلم. قال: فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض. قال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه» الحديث. قال: والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام.
واعلم أن أشراف قريش إنما نازعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد والكبر فختم الله تعالى السورة بذكر قصة آدم وما وقع فيه إبليس من الرجم واللعن حين حسد آدم واستكبر ليصير سماع القصة زاجرًا للمكلفين عن هاتين الخصلتين، فعلى هذا يكون {إذ قال} معمولًا لمحذوف اي اذكر وقت قول ربك للملائكة. وقيل: النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وعلى هذا فالضمير عائد إلى ما ذكره عما قريب. والمعنى ما أحكيه خبر له شأن لأنه مستفاد من الوحي. وقوله: {إذ قال} بدل من {إذ يختصمون} والملأ الأعلى اصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم حين قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30] كأنهم قالوا: هؤلاء فيما بينهم. ثم خاطبوا بها الله سبحانه فلا يلزم أن يكون الله تعالى من الملأ الأعلى ويثبت له مكان. أو نقول: المراد علو الرتبة والشرف فيشمل تقاول الله وملائكته. وقال جار الله: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط. وقصة آدم مذكورة في البقرة وفي غيرها مشروحة. والتي في هذه السورة يوافق أكثرها ما في الحجر فلا فائدة في إعادتها فلنذكر ما يختص بالمقام قوله: {خلقت بيديّ} كلام المجسمة فيه ظاهر وغيرهم حملوه على وجوه منها: أن اليد عبارة عن القدرة يقال ما لي بهذا الأمر يد أي قوّة وطاقة. ومنها أنها النعمة. ومنها أنها للتأكيد وليدل على عدم الواسطة كما مر في قوله: {مما عملت أيدينا} [يس: 71] وقد يقال في حق من جنى بلسانه وإن لم يكن له هذا مما كسبت يداك. والحق فيه أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيديه إلا إذا كانت عنايته مصروفة إلى ذلك العمل، فحيث كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازًا عنها. ومنها قول أرباب التأويل إنه إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وهما يشملان جميع الصفات فلا مخلوق إلا وهو مظهر لإِحدى الصفتين، كالملك فإنه مظهر اللطف، وكالشيطان فإِنه مظهر القهر إلا الإنسان فإِنه مظهر لكلتيهما وبذلك استحق الخلافة ومسجودية الملائكة ولهذا جاء في الأحاديث القدسية «لا أجعل ذرّية من خلقت بيديّ كمن قلت له كن فكان» قوله: {استكبرت أم كنت من العالين} أي أطلبت الكبر من غير استحقاق أم كنت ممن علوت وقفت؟ فأجاب بأنه من العالين حيث {قال أنا خير منه} وقيل: استكبرت الآن أو لم تزل منذ كنت من المتكبرين.
ومعنى الهمزة التقرير. قوله: {فالحق} من قرأ بالرفع فعلى أنه خبر لما مر أو مبتدأ محذوف الخبر مثل {لعمرك} [الحجر: 72] أي فالحق قسمي لأملأن والحق أقوله وهو اعتراض. ومن نصبهما فعلى أن اثاني تأكيد للأوّل، أو على أن الأوّل للإغراء أي اتبعوا الحق وهو الله سبحانه، أو الحق الذي هو نقيض الباطل. وقوله: {منك} أي من جنسك وهم الشياطين {وممن تبعك منهم} أي من ذرّية آدم. و{أجمعين} تأكيد للتابعين والمتبوعين. ثم ختم السورة بما يدل على الاحتياط والاجتهاد في طلب هذا الدين لأن النظر إما إلى الداعي أو إلى المدعو إليه. أما الداعي فلا يسأل أجرًا على ما يدعو إليه وهو القرآن أو الوحي أو النبأ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال ألبتة. وأما المدعو إليه فقوله: {وما أنا من المتكلفين} الذين ينتحلون ما ليس عندهم ولا دليل لهم على وجوده، بل العقل الصريح يشهد بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بالله أوّلًا ثم إلى تنزيهه عما لا يليق به ثانيًا، ثم إلى وصفه بنعوت الجمال والجلال ثالثًا ومن جملة ذلك التوحيد ونفي الأنداد والأضداد، ثم أدعو إلى تعظيم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة والأنبياء رابعًا، ثم إلى الشفقة على خلق الله خامسًا، ثم أدعو إلى الإقرار بالبعث والقيامة سادسًا {ليجزي الذين أسؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: 31] فهذه أصول معتبرة في دين الإسلام يشهد بحسنها بداية العقول ويحكم ببعدها عن الباطل كل من يرجع إلى محصول وهو المراد بقوله: {إن هو إلا ذكر للعالمين} عن النبي صلى الله عليه وسلم «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول مالا يعلم» {ولتعلمن نبأه بعد حين} أي خبر حقيقة القرآن وما أدعو إليه بعد حين هو الموت لأن الناس نيام فإِذا ماتوا انتبهوا. وقيل: هو القيامة. وقيل: هو حين ظهور الإسلام ولا يخفى ما فيه من التهديد. اهـ.